الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وفي بعض الروآيات أن قصة أبي سفيان كانت بعد الهجرة فلعلها وقعت مرتين، وقد تقدم ما يتعلق بذلك في سورة المؤمنين.وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي لهيعة عن عبد الرحمن الأعرج أنه قال في هذا الدخان: كان في يوم فتح مكة وفي (البحر) عنه أنهق ال: {يَوْمَ تَأْتِى السماء} وهو يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغبرة، وفي رواية ابن سعيد أن الأعرج يروي عن أبي هريرة أنه قال: كان يوم فتح مكة دخان، وهو قول الله تعالى: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} ويحسن على هذا القول أن يكون كناية عما حل بأهل مكة في ذلك اليوم من الخوف والذل ونحوهما.وقال علي كرم الله تعالى وجهه وابن عمر وابن عباس وأبوسعيد الخدري وزيد بن علي والحسن: إنه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ويعتري المؤمن كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص.وأخرج ابن جرير عن حذيفة بن اليمان مرفوعًا «أول الآيات الدجال ونزول عيسى ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تقيل معهم إذا قالوا والدخان، قال حذيفة: يا رسول الله وما الدخان؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} وقال: يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يومًا وليلة، أما المؤمن فيصيبه منه كهيئة الزكمة، وأما الكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج من منخريه وأذنيه ودبره، فالدخان على ظاهره والمعنى فارتقب يوم ظهور الدخان».وحكى السفاريني في (البحور الزاخرة) عن ابن مسعود أنه كان يقول: هما دخانان مضى واحد والذي بقي يملأ ما بين السماء والأرض ولا يصيب المؤمن إلا بالزكمة وأما الكافر فيشق مسامعه فيبعث الله تعالى عند ذلك الريح الجنوب من اليمن فتقبض روح كل مؤمن ويبقى شرار الناس، ولا أظن صحة هذه الرواية عنه.وحمل ما في الآية على ما يعم الدخانين لا يخفى حاله، وقيل: المراد بيوم تأتي السماء الخ يوم القيامة فالدخان يحتمل أن يراد به الشدة والشر مجازًا وأن يراد به حقيقته.وقال الخفاجي: الظاهر عليه أن يكون قوله تعالى: {تَأْتِى السماء} إلى آخِره استعارة تمثيلية إذ لا سماء لأنه يوم تشقق فيه السماء فمفرداته على حقيقتها، وأنت تعلم أنه لا مانع من القول بأن السماء كما سمعت أولا بمعنى جهة العلوسلمنا أنها بمعنى الجرم المعروف لكن لا مانع من كون الدخان قبل تشققها بأن يكون حين يخرج الناس من القبور مثلًا بل لا مانع من القول بأن المراد من إتيان السماء بدخان استحالتها إليه بعد تشققها وعودها إلى ما كانت عليه أولا كما قال سبحانه: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] ويكون فناؤها بعد صيرورتها دخانًا.هذا والأظهر حمل الدخان على ما روي عن ابن مسعود أولا لأنه أنسب بالسياق لما أنه في كفار قريش وبيان سوء حالهم مع أن في الآيات بعد ما هو أوفق به، فوجه الربط أنه سبحانه لما ذكر من حالهم مقابلتهم الرحمة بالكفران وأنهم لم ينتفعوا بالمنزل والمنزل عليه عقب بقوله تعالى شأنه: {فارتقب يَوْمَ} الخ، للدلالة على أنهم أهل العذاب والخذلان لا أهل الإكرام والغفران.{يغشى الناس} أي يحيط بهم، والمراد بهم كفار قريش، ومن جعل الدخان ما هو من أشراط الساعة حمل (الناس) على من أدركه ذلك الوقت، ومن جعل ذلك يوم القيامة حمل (الناس) على العموم.والجملة صفة أخرى للدخان.وقوله تعالى: {هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.{رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ} في موضع نصب بقول مقدر وقع حالًا أي قائلين أو يقولون هذا الخ.والإشارة للتفخيم، وقيل: يجوز أن يكون هذا عذاب أليم إخبارًا منه عز وجل تهويلًا للأمر كما قال سبحانه وتعالى في قصة الذبيح {إِنَّ هذا لَهو البلاء المبين} [الصافات: 106] فهو استئناف أواعتراض والإشارة بهذا للدلالة على قرب وقوعه وتحققه، وما تقدم أولى، وقوله سبحانه: {رَبَّنَا} إلى آخِره كما صرح به غير واحد من المفسرين وعد منهم بالإيمان إن كشف جل وعلا عنهم العذاب، فكأنهم قالوا: ربنا إن كشفت عنا العذاب امنا لكن عدلوا عنه إلى ما في المنزل إظهارًا لمزيد الرغبة وحملوه على ذلك لما في بعض الروآيات أنه لما اشتد القحط بقريش مشى أَبُو سُفْيَان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الرحم وواعده أن دعا لهم وزال ما بهم امنوا والمراد بقوله سبحانه وتعالى: {أنى لَهُمُ الذكرى} نفي صدقهم في الوعد وأن غرضهم إنما هو كشف العذاب والخلاص أي كيف يتذكرون أو من أين يتذكرون بذلك ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب عنهم.{وَقَدْ جَاءهُمْ رسول مُّبِينٌ} أي والحال أنهم شاهدوا من دواعي التذكر وموجبات الاتعاظ ما هو أعظم من ذلك في إيجابهما حيث جاءهم رسول عظيم الشأن ظاهر أمر رسالته بالآيات والمعجزات التي تخر لها صم الجبال أو مظهر لهم مناهج الحق بذلك.{ثُمَّ تَولواْ عَنْهُ} أي عن ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام وهو هو والجملة عطف على قوله تعالى: {ولقَدْ جَاءهُمُ} [الدخان: 13] إلى آخِره، وعطفها على قوله سبحانه: {رَبَّنَا} [الدخان: 12] الخ لأنه على معنى قالوا: ربنا الخ ليس بذاك، وثم للاستبعاد والتراخي الرتبي وإلا فهم قد تولوا ريثما جاءهم وشاهدوا منه ما شاهدوا مما يوجب الإقبال إليه صلى الله عليه وسلم: {وَقالواْ} مع ذلك في حقه عليه الصلاة والسلام.{مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} أي قالوا تارة: يعلمه عداس غلام رومي لبعض ثقيف وأخرى مجنون أو يقول بعضهم كذا واخرون كذا ولم يقل ومجنون بالعطف لأن المقصود تعديد فبائحهم وقرأ زر بن حبيش معلم بكسر اللام فمجنون صفة له وكأنهم أرادوا رسول مجنون وحاشاه ثم حاشاه صلى الله عليه وسلم.{إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} جواب من جهته تعالى عن قولهم وأخبار بالعود على تقدير الكشف أي إن كشفنا عنكم العذاب كشفًا قليلًا أوزمانًا قليلًا عدتم والمراد على ما قيل عائدون إلى الكفر؛ وأنت تعلم أن عودهم إليه يقتضي إيمانهم وقد مر أنهم لم يؤمنوا وإنما وعدوا الإيمان فإما أن يكون وعدهم منزلًا منزلة إيمانهم أو المراد عائدون إلى الثبات على الكفر أو على الإقرار والتصريح به وقال قتادة: هذا توعد بمعاد الآخرة وهو خلاف الظاهر جدًّا ومن قال: إن الدخان يوم القيامة قال إن قوله سبحانه: {إِنَّا كَاشِفُواْ} إلى آخِره وعد بالكشف على نحو قوله عز وجل: {ولوردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] ومن قال المراد به ما هو من أشراط الساعة قال بإمكان الكشف وعدم انقطاع التكليف عند ظهوره وإن كان من الأشراط بل جاء في بعض الآثار أنه يمكث أربعين يومًا وليلة فيكشف عنهم فيعودون إلى ما كانوا عليه من الضلال، وحمله على ما روي عن ابن مسعود ظاهر الاستقامة لا قيل فيه ولا قال، وقوله سبحانه: {وَقَدْ جَاءهُمْ} [الدخان: 13] الخ قوي الملاءمة له وهو بعيد الملاءمة للقول المروى عن الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه فقد احتيج في تحصيلها إلى جعل الإسناد من باب إسناد حال البعض إلى الكل أوحمل الناس على الكفار الموجودين في ذلك الوقت والأمر على القول بأنه ما كان في فتح مكة أهون إلا أنه مع ذلك ليس كقول ابن مسعود فتأمل.{يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى} هو يوم بدر عند ابن مسعود وأخرجه عبد بن حميد. وابن جرير عن أبي بن كعب ومجاهد والحسن وأبي العالية وسعيد بن جبير ومحمد بن سيرين وقتادة وعطية، وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس.وأخرج ابن جرير. وعبد بن حميد بسند صحيح عن عكرمة. قال: قال ابن عباس قال ابن مسعود البطشة الكبرى يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة ونقل في (البحر) حكاية أنه يوم القيامة عن الحسن وقتادة أيضًا.والظرف معمول لما دل عليه قوله تعالى: {إِنَّا مُنتَقِمُونَ} أي إنا ننتقم يوم إذ انا منتقمون، وقيل لمنتقمون ورده الزجاج وغيره بأن ما بعد إن لا يجوز أن يعمل فيما قبلها، وقيل لعائدون على معنى إنكم لعائدون إلى العذاب يوم نبطش.وقيل بكاشفوا العذاب وليس بشيء وقيل لذكرهم أو اذكر مقدرًا، وقيل هو بدل من {يَوْمَ تَأْتِى} [الدخان: 10] الخ.وقرىء {نَبْطِشُ} بضم الطاء وقرأ الحسن وأبو رجاء. وطلحة بخلاف عنه {نَبْطِشُ} بضم النون من باب الأفعال على معنى نحمل الملائكة عليهم السلام على أن يبطشوا بهم أونمكنهم من ذلك فالمفعول به محذوف للعلم وزيادة التهويل، وجعل البطشة على هذا مفعولا مطلقًا على طريقة {أنبتكم نباتًا} [نوح: 17]، وقال ابن جني، وأبو حيان: هي منصوبة بفعل مضمر يدل عليه الظاهر أي يوم نبطش من نبطشه فيبطش البطشة الكبرى، وقال ابن جني: ولك أن تنصبها على أنها مفعول كأنه به قيل: يوم نقوي البطشة الكبرى عليهم ونمكنها منهك كقولك: يوم نسلط القتل عليهم ونوسع الأخذ منهم، وفي (القاموس) بطش به يبطش ويبطش أخذه بالعنف والسطوة كابطشة والبطش الأخذ الشديد في كل شيء والبأس اه فلا تغفل. اهـ.
|